يشهد العراق تعافياً اقتصادياً وأمنياً ملحوظاً—يُعد الأنجح منذ سبعينيات القرن الماضي—إلا أن هذا التقدم يواجه تهديداً جدياً. إذ إن الإشارات المتناقضة الصادرة عن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لا سيما بشأن قوات الحشد الشعبي المرتبطة بإيران، قد تُقوض الإنجازات المحققة بشق الأنفس، وذلك مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية الحاسمة المقررة في نوفمبر 2025.
خلال ولايته الأولى، تمكنت إدارة ترامب من هزيمة تنظيم داعش في العراق، مما وضع الأساس لما نشهده اليوم من تقدم. ويمكن لإدارته الثانية، التي تتولى السلطة حالياً، البناء على تلك النجاحات من خلال وضع استراتيجية عراقية واضحة تدعم الاستقلال الاقتصادي والسياسي والأمني الكامل للعراق عن إيران—وذلك عبر نهج يعامل العراق كأولوية استراتيجية بحد ذاته، لا كمجرد امتداد للسياسة الأمريكية تجاه إيران.
ما هو على المحك ليس مجرد السياسة الداخلية العراقية، بل أحد أنجح نماذج السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة لطالما عانت من الإخفاقات في هذا الصدد.
نجاح واشنطن في العراق مهدد
عندما تولت إدارة ترامب الأولى الحكم (2017-2021)، ورثت عراقاً مضطرباً، ولكن المشهد تغيّر بشكل ملحوظ مع بداية ولايته الثانية.
رغم الصعوبات، تمكن العراق من بناء مؤسسات ديمقراطية تؤدي إلى انتقال سلمي للسلطة من خلال الانتخابات. كما أن المحكمة العليا العراقية—رغم عيوبها—نجحت في حل نزاعات سياسية معقدة دون اللجوء إلى العنف، وهو ما لم تنجح فيه دول مجاورة. والأكثر إثارة للإعجاب هو التعاون غير المسبوق بين القادة الشيعة والسنة والكرد، والذي مكّن من حلّ سلمي للنزاعات العالقة بين بغداد وأربيل.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد أظهر العراق تطوراً إيجابياً في علاقاته الإقليمية والدولية، ولعب دوراً في التهدئة بين إيران والعالم العربي.
رغم الضغوط، استطاع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الموازنة بين واشنطن وطهران، مستفيداً من وحدة الصف الداخلي، والحوار المنتظم مع إدارة الرئيس السابق جو بايدن، للحفاظ على حياد العراق في الصراعات المتصاعدة بين إيران وإسرائيل.
هذه الإنجازات السياسية استندت إلى قاعدة من التعافي الاقتصادي:
إصلاحات في القطاع المصرفي بالتعاون مع وزارة الخزانة الأمريكية وبنك جي بي مورغان، حدّت من غسل الأموال والتمويل غير المشروع.
مشاريع بنى تحتية حوّلت وجه بغداد الحضري.
ارتفاع أسعار النفط زاد من احتياطي الدولة.
في عام 2024، أجرت البلاد أول تعداد سكاني ناجح منذ 1987، مما يمهد لتقسيم انتخابي عادل.
تحسن الوضع الأمني إلى درجة أن العراق لم يعد يتصدر عناوين الأخبار بسبب الإرهاب أو العنف الطائفي.
هذه المكاسب تخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية، وتشكل رواية مضادة لفشل واشنطن في الشرق الأوسط.
إشارات متضاربة من الكونغرس والبيت الأبيض
ظهر مؤخراً فجوة خطيرة في التواصل قد تهدد هذا التقدم. فمنذ تسلم ترامب السلطة في يناير 2025، سيطرت على الخطاب العراقي تقارير عن "مطالب أمريكية" بحلّ الحشد الشعبي. لكن السوداني صرّح بأن حكومته لم تتلقَ أي طلب رسمي بهذا الخصوص. وفي الوقت نفسه، زعم السفير الإيراني في بغداد أن واشنطن ناقشت مستقبل الحشد مع طهران وليس مع بغداد.
زاد الأمر تعقيداً طرح مشروع قانون أمريكي في الكونغرس بعنوان "تحرير العراق من إيران"، يقوده النائب الجمهوري جو ويلسون والديمقراطي جيمي بانيتا، وينص على "تفكيك جميع الميليشيات المرتبطة بإيران في العراق".
بالنسبة للقادة العراقيين الذين شهدوا تبعات تغيير النظام عام 2003 بقرار من الكونغرس، فإن مثل هذه المبادرات تُفهم على أنها مقدمة لتغيير السياسة. وعندما لا تميز هذه المشاريع بين الميليشيات التابعة لإيران وبين الحشد الشعبي كمؤسسة وطنية، فإن الطبقة السياسية العراقية تتعامل مع ذلك بحذر تاريخي.
عدم إصدار البيت الأبيض بياناً لتأكيد أو نفي موقفه من مشروع القانون أدى إلى تزايد القلق. فالكثيرون يرون أن الدعوات الصريحة لتفكيك الحشد ما هي إلا محاولة لإنهاء حكم الأغلبية الشيعية—وهو تناقض مع موقف إدارة ترامب المعلن برفض تغيير الأنظمة، لكنها في الوقت ذاته لا تتسامح مع وكلاء إيران.
الحشد الشعبي: واقع معقّد
تأسس الحشد الشعبي في يونيو 2014 كرد فعل على انهيار الجيش العراقي وسقوط الموصل بيد داعش. ما بدأ كقوة طوارئ تحول إلى مؤسسة تحظى بشرعية واسعة نتيجة تضحياتها العسكرية ضد تنظيم متطرف.
صحيح أن إيران استغلت غطاء الحشد لزرع فصائل تابعة لها، لكن التعامل مع الحشد كمؤسسة كاملة مكونة من 250 ألف عنصر كأداة إيرانية هو تبسيط مخل بالواقع. الغالبية العظمى من عناصر الحشد هم عراقيون لبّوا نداء المرجع الأعلى السيد السيستاني، ويخضعون لبغداد، وليس لطهران.
يوفر الحشد دعماً اقتصادياً لنحو 1.25 مليون شخص في جنوب العراق، حيث تتجاوز معدلات الفقر 25%. وحتى بعض القادة الشيعة داخل الإطار التنسيقي يعارضون النفوذ الإيراني على بعض الفصائل، لكنهم يدركون أن الحشد يحظى بدعم شعبي واسع.
الخطر يكمن في حل الحشد بشكل كامل، مما قد يؤدي إلى تكرار خطأ تفكيك الصحوات السنية، وما تبعه من عودة للعنف والتطرف.
أزمة برلمانية تهدد الانتخابات
يشهد البرلمان العراقي جموداً بين مشروعين بشأن مستقبل الحشد:
مشروع حكومي يقترح دمج الحشد داخل المؤسسة العسكرية الرسمية تحت قيادة رئيس الوزراء.
مشروع آخر من هيئة الحشد يسعى لتحقيق الاستقلال المالي من خلال شركات واستثمارات، بما يشبه نموذج الحرس الثوري الإيراني أو حزب الله.
المشروع الثاني يفتقر للدعم داخل الكتل الشيعية، فضلاً عن الأكراد والسنة. وبينما ترفض واشنطن المشروع ككل، فإنها لم تقدم بديلاً واضحاً، مما أدى إلى توقف جلسات البرلمان، وعرقلة الاستعدادات للانتخابات المقررة في 11 نوفمبر 2025.
وتنص المحكمة الاتحادية العليا على ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها الدستوري، ما يضع الجميع أمام أزمة قانونية محتملة قد تعيد الشارع إلى الاحتجاج، وربما تُعيد التيار الصدري إلى المواجهة السياسية.
المصالح الاستراتيجية الأمريكية في استقرار العراق
العراق حليف حيوي للولايات المتحدة في منطقة مضطربة، ويستضيف آلاف الجنود الأمريكيين، ويتلقى مئات الملايين من المساعدات الأمنية. يمثل توازناً أمام النفوذ الإيراني، ونموذجاً نادراً للديمقراطية في الشرق الأوسط. أما استمرار حالة الغموض السياسي، فقد يهدد هذه المكاسب ويقوّض مصداقية واشنطن كشريك موثوق.
رفض دمج الحشد بشكل كامل قد يؤدي إلى اضطرابات، لا إلى تحجيم نفوذ إيران. تفكيك 250 ألف مقاتل مسلح دون بدائل يعيد خلق فراغات أمنية تستغلها جماعات متطرفة أو فصائل خارجة عن سيطرة الدولة. النتيجة المتوقعة: إضعاف حكومة بغداد، وهو عكس الهدف الأمريكي المعلن.
الطريق إلى الأمام
حتى تضمن إدارة ترامب استمرارية المكاسب الأمريكية في العراق، عليها:
توضيح موقفها بشكل مباشر لبغداد.
التمييز بين الحشد كمؤسسة وطنية والفصائل التابعة لإيران.
دعم جهود الدولة في السيطرة على السلاح، بدل طرح مطالب عامة بحل الحشد.
تحديد موقف واضح من مشروع القانون في الكونغرس.
احترام الجدول الدستوري للانتخابات، وتجنب الخطوات التي قد تؤجلها.
استقرار العراق هو إنجاز أمريكي نادر في الشرق الأوسط. ولحماية هذا الاستثمار، يجب على واشنطن التخلي عن الغموض واللجوء إلى دبلوماسية تراعي السيادة العراقية وتعالج الهواجس الأمنية المشروعة.
البديل—أي استمرار السياسة الغامضة—سيمنح خصوم الولايات المتحدة في المنطقة فرصة استراتيجية لا تُعوّض.
بقلم: سركوت شمس الدين
زميل غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي، وعضو سابق في البرلمان العراقي (2018-2021)، ورئيس ومؤسس مشارك لمجموعة المشورة الأمريكية العراقية.
تعليقات الزوار