وهم الدولار عند ترامب: كيف تهدد الحرب التجارية الامتياز المالي الأمريكي
يحذر الخبير الاقتصادي الأمريكي إدواردو بورتر في مقاله المنشور بصحيفة The Guardian من أنّ السياسات الاقتصادية لإدارة دونالد ترامب، وخاصة نواياها المعلنة لإضعاف الدولار الأمريكي، قد تؤدي إلى تقويض ما يُعرف بـ «الامتياز المفرط» الذي تمتعت به الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والمتمثل في هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي.
وبينما يرى مستشارو ترامب أن هذا الامتياز بات عبئاً على الاقتصاد الأمريكي ويساهم في تفاقم العجز التجاري، فإن تطبيق هذه الرؤية قد يؤدي إلى نتائج عكسية تهدد نفوذ واشنطن المالي وقدرتها على تمويل ديونها بتكلفة منخفضة، فضلاً عن زعزعة الاستقرار الاقتصادي العالمي.
الدولار بين السياسة والاقتصاد
تتبنى إدارة ترامب – وفق بورتر – سياسة مزدوجة ومتناقضة: فهي من جهة تحذر الدول من الاستغناء عن الدولار، ومن جهة أخرى تروّج داخلياً لفكرة أن مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية تمثل عبئاً غير ضروري على الاقتصاد الأمريكي.
فـستيفن ميران، المستشار الاقتصادي للرئيس وعضو مجلس الاحتياطي الفيدرالي، يرى أن هذا الوضع يدفع الولايات المتحدة إلى تصدير سندات الخزانة لتلبية الطلب العالمي على الأصول الآمنة، مما يؤدي إلى تضخيم قيمة الدولار بشكل مصطنع ويمنع توازن التجارة الدولية.
لكن بورتر يصف هذا التفكير بأنه «سحر اقتصادي خطير»، إذ يمكن أن يتحول بسهولة إلى سياسات تُضعف الثقة في الدولار وتقلل من جاذبيته كعملة ملاذ آمن.
بدائل محدودة للدولار
رغم الانتقادات، لا توجد عملة قادرة على منافسة الدولار في المدى المنظور.
اليورو ما زال يعاني من انقسام الأسواق المالية الأوروبية وغياب سندات أوروبية موحدة.
اليوان الصيني (الرنمينبي) يواجه قيوداً صارمة على حركة رأس المال تحول دون استخدامه كعملة احتياط رئيسية.
ويشير التقرير إلى أن نحو ثلثي دول العالم تربط عملاتها بالدولار لحماية اقتصاداتها من الصدمات العالمية، وأن التخلي عن هذا النظام قد يزيد التقلبات المالية ويضعف استقرار التجارة الدولية.
الامتياز المفرط: نعمة أم عبء؟
صحيح أن وضع الدولار كعملة احتياط عالمية يجذب كميات ضخمة من رؤوس الأموال إلى سندات الخزانة الأمريكية، لكن هذا – كما يؤكد بورتر – «هدية لا ينبغي التفريط بها»، لأنه يمكّن الحكومة الأمريكية من تمويل ديونها (التي تعادل نحو 120% من الناتج المحلي الإجمالي) بفوائد منخفضة، ويمنحها ميزة استراتيجية في فرض العقوبات الاقتصادية والسيطرة على النظام المالي الدولي.
وفي حال تراجع هذا الوضع، فإن الولايات المتحدة ستفقد جزءاً من نفوذها المالي العالمي، وسترتفع تكلفة الاقتراض، مما يفاقم عجز الموازنة ويهدد استقرار الدولار ذاته.
الحرب التجارية وتأثيرها على الدولار
يشير المقال إلى أن حرب ترامب التجارية وسياسات الرسوم المتبادلة على الواردات تضعف دور الدولار كأداة تأمين ضد تقلبات السوق العالمية. فمع تراجع حجم الواردات الأمريكية، تقل العلاقة بين قيمة الدولار وأسعار السلع المتداولة عالمياً، ما يقلل من جاذبية الدولار كعملة تحوط.
الباحث الاقتصادي طارق حسن من جامعة بوسطن أوضح أن هذه السياسات رفعت أسعار الفائدة الأمريكية بنحو نصف نقطة مئوية وأدت إلى توجه بعض الدول النامية نحو الاقتراض بعملات أخرى مثل الفرنك السويسري واليوان لتجنب ارتفاع تكاليف التمويل بالدولار.
مؤشرات على تراجع الهيمنة
بحسب البيانات الحديثة، انخفضت حصة الدولار من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية إلى 58% فقط بعد أن كانت 74% في مطلع الألفية. كما تقلص الفارق بين عوائد سندات الخزانة الأمريكية ونظيراتها في الأسواق الأخرى، ما يشير إلى تآكل تدريجي في “ميزة الأمان” التي طالما ميزت الدولار.
وعندما أعلن ترامب في أبريل الماضي عن جولة جديدة من الرسوم “المتبادلة”، شهدت الأسواق الأمريكية تراجعاً حاداً في الأسهم والسندات والدولار معاً، في مشهد يشبه انهيارات الأسواق الناشئة، وهو ما اعتُبر سابقة خطيرة تمس سمعة الدولار كأصل آمن في أوقات الأزمات.
تداعيات محتملة على الاقتصاد العالمي
يحذر بورتر من أن انهيار الثقة في الدولار سيخلق فراغاً مالياً عالمياً يصعب ملؤه:
قد تحاول أوروبا استغلال الفرصة لإطلاق سندات موحدة لتقوية موقع اليورو.
لكن ذلك لن يمنع ارتفاع تكلفة “التأمين المالي العالمي”، أي أن التقلبات والمخاطر سترتفع على الجميع.
ومع أن انخفاض الدولار قد يخفض مؤقتاً العجز التجاري الأمريكي، إلا أنه – كما يؤكد الكاتب – سيأتي “بثمن باهظ” يتمثل في فقدان النفوذ المالي والسياسي الأمريكي الذي شكل لعقود أحد ركائز النظام الدولي.
خلاصة
سياسات ترامب تجاه الدولار تكشف مفارقة جوهرية: فهو يسعى إلى تقليص العجز التجاري عبر إضعاف الدولار، لكنه بذلك يهدد أهم أدوات القوة الأمريكية — العملة التي جعلت من الولايات المتحدة ممول العالم ومركز ثقله المالي.
إن ما يسميه البعض “تحرير الاقتصاد الأمريكي من عبء الدولار” قد يتحول، إذا استمر، إلى أخطر محاولة ذاتية لتقويض الإمبراطورية المالية الأمريكية من الداخل.
تعليقات الزوار