En

استراتيجية أمن قومي تعيد تشكيل العالم… وتُربك الحلفاء

تشير استراتيجية الأمن القومي (NSS) هذه إلى تحوّل جوهري، أيديولوجياً وعملياً، في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. تحاول الإدارة الحالية وضع ملامح جديدة لـ"عقيدة أمريكا أولاً" تقوم على براغماتية عميقة، وربما قصيرة النظر.

فمثلاً، انتهى تماماً ما كان يُعرف بـ"أجندة الديمقراطية". إذ ستتحدد الخيارات في السياسة الخارجية وفق ما يجعل الولايات المتحدة أكثر قوة وازدهاراً. قد يبدو ذلك منطقياً، وهو على ما يبدو ما صوّت لأجله الشعب الأمريكي، لكنه قد يقود على المدى البعيد إلى مستقبل أكثر عزلة وضعفاً وتفككاً. نحن أمام لحظة فارقة فعلاً في الطريقة التي يعمل بها العالم.

 

تشكل هذه الاستراتيجية صدمة حقيقية ومؤلمة لأوروبا. إنها لحظة تتجسد فيها هوّة واسعة بين نظرة أوروبا لنفسها ورؤية ترامب لها. وإذا كانت هناك أي شكوك لدى الأوروبيين بشأن التزام إدارة ترامب بسياسة "الحب القاسي" تجاههم، فقد زالت الآن تماماً.

الإدارة تطلب – أو بالأحرى تطالب – أوروبا بأن تضبط أمن محيطها بنفسها، والأهم أن تموّل ذلك بنفسها. أكثر ما يثير القلق في الوثيقة هو الأقسام التي توبّخ أوروبا على "فقدان طابعها الأوروبي". هذا الخطاب يوحي بتغذية الخوف من المهاجرين والتمسك بصورة مثالية لأوروبا القديمة، وهي صورة موضع شك كبير.

أوروبا الحديثة نابضة بالحياة، متطورة، و—في معظمها— سعيدة. على الأرجح، ستكون ردة الفعل الأوروبية على هذه الاستراتيجية صدمة مشابهة لتلك التي استقبلت خطاب نائب الرئيس جي دي فانس في ميونيخ.

 

الصين: ما تحبه وما تكرهه

 

ستحب بكين جانبين من الاستراتيجية وتكره البقية.

ستحب الإعلان الصريح بأن التفضيل الأمريكي هو عدم التدخل في شؤون الدول واحترام سيادتها، إذ قد يخفف ذلك مخاوف الصين من سعي الولايات المتحدة لزعزعة استقرار النظام السياسي فيها. ولكنها ستكره الدعوة الصريحة لانسحابها من أميركا اللاتينية، والمقاربة القوية للردع—وهما موقفان ضروريان وصائبان وفق الكاتبة. عموماً، القسم المتعلق بالمحيط الهادئ قوي.

 

براغماتية بلا براغماتية

 

وصلت سياسة "أمريكا أولاً" رسمياً. والعبارة المفتاحية: "السياسة الخارجية للرئيس ترامب براغماتية دون أن تكون 'براغماتيةً'، واقعية دون أن تكون 'واقعيةً سياسية'، مبدئية دون أن تكون 'مثالية'، قوية دون أن تكون 'صقرية'، ومتوازنة دون أن تكون 'حمائمية'… إنها تقوم على ما يخدم أمريكا—أو بكلمتين: أمريكا أولاً."

 

يظهر هذا النهج بوضوح في جانبين: اللغة الخاصة بالنمو الاقتصادي، وإنهاء سياسة دعم الديمقراطية.

 

النمو الاقتصادي

 

المنطق واضح: يجب على الولايات المتحدة أن تنجح تجارياً لتكون قوية داخلياً، وهذه القوة الداخلية ستمكّنها من تحقيق مكاسب خارجية لاحقاً.

تشدد الاستراتيجية على إعادة التصنيع، وتعزيز قاعدة الصناعات الدفاعية، وتأمين المعادن والموارد الحيوية — وهي أهداف صحيحة من حيث المبدأ، لكن سؤال "كيف؟" يبقى الأصعب.

 

كما سيُسعد قطاع الأعمال الأمريكي أن يسمع دعوة واضحة للتعاون الوثيق بين الحكومة والقطاع الخاص. والأهم، تكليف السفراء الأمريكيين بأن يكونوا "سفراء للأعمال":

 

"يجب على كل سفاراتنا أن تكون على دراية بالفرص التجارية الكبرى في الدول التي تعمل فيها… وعلى كل المسؤولين الأمريكيين أن يساعدوا الشركات الأمريكية على المنافسة والنجاح."

 

الديمقراطية في المرتبة الأخيرة

 

المشهد أكثر قتامة هنا. فقد قررت الإدارة فيما يبدو أن دعم الإصلاحات الديمقراطية منخفض جداً على سلم الأولويات؛ مجرد عنصر "جيد لو توفر"، بعد أن كان رؤية عالمية نحو عالم أكثر سلاماً ومواطنين أكثر قوة.

 

على سبيل المثال: في أميركا اللاتينية تقول الاستراتيجية إن واشنطن ستكافئ الحكومات المتوافقة مع مبادئها، لكن: "يجب ألا نتجاهل الحكومات ذات الرؤى المختلفة طالما نتشارك المصالح ويمكننا العمل معها."

 

 

 

وفي إفريقيا، تقول: "لسنوات طويلة ركزت السياسة الأمريكية في إفريقيا على نشر الأيديولوجيا الليبرالية."

 

 

ثم في الشرق الأوسط، سيكون الملوك الخليجيون سعداء جداً بالفقرة التي تعلن انتهاء "تجربة أمريكا الخاطئة" في الضغط عليهم لإحداث إصلاحات سياسية. وتشدد على أن الإصلاح مرحب به عندما ينشأ "عضوياً" دون تدخل خارجي.

 

إنها سياسة "افعلوا ما يناسبكم" على مستوى العلاقات الدولية. وسيحصل المستبدون على حصانة كاملة من الضغط الأمريكي طالما التعاون ممكن. وتجدر الإشارة إلى أن إدارة ريغان أيضاً تعاملت مع أنظمة غير ديمقراطية، لكن لتحقيق هدف أيديولوجي واضح: هزيمة الشيوعية. أما هدف إدارة ترامب فهو: الازدهار.

 

الصين تحت المجهر

 

تبعث الاستراتيجية برسالتين للصين: طمأنة كبيرة وقلق كبير.

 

الطمأنة: عدم التدخل واحترام السيادة — وهي مطالب صينية دائمة.

أما القلق: فهو إعلان عقيدة مونرو جديدة تطالب الصين بالخروج من أميركا اللاتينية:

 

"يجب أن تكون الولايات المتحدة القوة المهيمنة في نصف الكرة الغربي… ويجب أن تتوقف أي مساعدات أو تحالفات إذا لم يتم تقليص النفوذ الخارجي المعادي."

 

كما توجه الاستراتيجية نقداً حاداً للسياسة الأمريكية السابقة تجاه الصين:

 

"قلب الرئيس ترامب أكثر من ثلاثة عقود من الافتراضات الخاطئة حول الصين…"

 

وترى الكاتبة أن نقد "النخبة السياسية" مبالغ فيه، لكنها تعترف بأن التفاؤل بشأن صعود الصين كان "ساذجاً" وأن بكين لم تبادل واشنطن بحسن نية.

 

جرس الإنذار الأوروبي

 

تتسم الاستراتيجية بنبرة ساخرة ومتعالية تجاه أوروبا. وتشير بوضوح إلى أن وقت "التشجيع" قد انتهى وحلّ محله "الصرامة". جزء منها متوقع وصحيح، مثل المطلب القديم بأن على أوروبا تحمّل المزيد من أعباء الدفاع في الناتو.

 

لكن الجزء الأكثر إثارة للقلق هو الاتهام بفقدان الهوية الثقافية الأوروبية. وهي مفارقة واضحة، إذ تزعم الوثيقة أنها لن تنتقد الأنظمة الملكية أو تتدخل في الشؤون الداخلية، لكنها تنتقد أوروبا بسبب:

 

"خطر المحو الحضاري… سياسات الهجرة التي تغيّر القارة وتخلق صراعات… انخفاض معدلات الولادة… فقدان الهوية والثقة بالنفس."

 

هذا الخطاب يعكس أجندات اليمين المتطرف في أوروبا، ويبدو متناغماً مع رؤية بوتين—ومستفزاً للغاية لبروكسل.

 

كما تقول الوثيقة: "العلاقات الأوروبية مع روسيا أصبحت ضعيفة… والكثير من الأوروبيين يرون روسيا تهديداً وجودياً."

 

الكاتبة ترد: "لأنها فعلاً تهديد وجودي."

 

الخلاصة

 

لغة الاستراتيجية حادة ومقلقة في أجزاء كثيرة. وتشير الكاتبة إلى تناقضات واضحة، مثل الحديث عن "إطفاء شرارات الانقسام بين الدول النووية بشكل جراحي". لكنها تقر بأن السلام أفضل من الحرب، وأن نصف القرن الأخير أثبت أن الدور الأمريكي القوي يعزز السلام والازدهار. وترى أن الرئيس ترامب ساهم فعلاً في الدفع نحو السلام، لكن ذلك لا يكفي وحده.

 

وتختتم بالتأكيد على أن تحمّل التكاليف قصيرة المدى من أجل تحقيق مكاسب طويلة المدى ضروري للحفاظ على السلام الأمريكي (Pax Americana). وهذه التكاليف تشمل الاستثمار في الأمن والتجارة الحرة والديمقراطية والتحالفات.

 

"فقدان هذه الأسس لن يجعل أمريكا أولاً… بل سيجعلها ضعيفة."

تعليقات الزوار