En

ما الذي تخبرنا به استراتيجية الأمن القومي الأمريكية عن رؤية ترامب للعالم؟

الكاتب: أندرو غاوثورب - محاضر في التاريخ والدراسات الدولية – جامعة ليدن

أصدرت البيت الأبيض استراتيجية الأمن القومي، وهي وثيقة تصدرها كل إدارة رئاسية أمريكية لتوضيح أهم أولويات سياستها الخارجية. هذه الوثائق يفرض الكونغرس إصدارها قانونياً، وغالباً ما تُكتب عبر لجنة متخصصة، لكنها تحمل توقيع الرئيس وتُعد خلاصة لطريقة تفكير القائد العام للقوات المسلحة.

الوثيقة الأخيرة ليست استثناءً، بل وربما أكثر من أي استراتيجية سابقة، تعكس بوضوح تركيزاً على رؤية الرئيس الحالي وأنشطته. فهي تتفاخر بما تعتبره "إنجازات" إدارة ترامب بأسلوب أقرب إلى خطاب انتخابي، وتُغدق في مواضع كثيرة الثناء على الرئيس لدوره في "قلب المألوف" ووضع السياسة الخارجية الأمريكية على "مسار جديد".

 

فماذا تخبرنا هذه الوثيقة عن رؤية ترامب للعالم؟ ثلاثة محاور رئيسية تتكرر في النص:

أولاً: ترامب ليس انعزالياً

رغم ما يُقال أحياناً، ترامب لا يريد سحب الولايات المتحدة من العالم. ولو كان كذلك، لما تفاخر بالتوسط في ثمانية اتفاقيات سلام أو بتوجيه ضربات لبرنامج إيران النووي.

مثل الوثائق التقليدية، تؤكد الاستراتيجية أن أمريكا تتحمل مسؤولية حفظ السلام والازدهار العالميين، لكن داخل هذا الإطار الواسع، تُظهر الوثيقة أولويات جديدة.

الأبرز بينها هو التركيز على نصف الكرة الغربي. فبينما اعتبرت إدارات سابقة احتواء الصين الأولوية القصوى، يتعهد ترامب بـ"استعادة الهيمنة الأمريكية في نصف الكرة الغربي". ومع ذلك، لا تُحدد الوثيقة سوى تهديدين "ملموسين" في المنطقة: عصابات المخدرات و الهجرة غير النظامية.

من منظور الإدارات السابقة، هذا غير منطقي، إذ كانت السياسة الخارجية الأمريكية ترتكز على مواجهة التهديدات الكبرى، خصوصاً من روسيا والصين، وليس المخدرات أو المهاجرين.

لكن بالنسبة لترامب، فإن المخدرات والمهاجرين الذين قال سابقاً إنهم "يسمّمون دماء" الولايات المتحدة، يمثلون تهديداً مباشراً للشعب الأمريكي. وبالتالي، فإن "أمريكا أولاً" تعني في نظره التركيز على هذه المخاطر.

ومع ذلك، لا يعني هذا أن ترامب انعزالي. فحماية الشعب الأمريكي وفق رؤيته تتطلب سياسة خارجية نشطة.

ثانياً: صراع حضاري – ترامب يرى نفسه حامياً لـ"الحضارة الغربية"

تتبنى الوثيقة موقفاً شبيهاً بخطاب ترامب السياسي: الحديث عن أن "الحضارة الغربية" تتعرض للهجوم من مهاجرين "معادين"، وليبراليين "ضعفاء"، و"انحلال ثقافي". ويرى ترامب نفسه قائداً لمعركة استعادة هذه الحضارة، ويدعو الأوروبيين لاتباع النهج ذاته.

وتنتقد الوثيقة الحكومات الأوروبية لفتح أبوابها أمام "أعداد كبيرة من المهاجرين"، ولـ"اضطهاد أحزاب اليمين المتطرف"، ولـ"خيانة الإرث الحضاري الغربي". وقد أثارت هذه العبارات صدمة داخل الأوساط السياسية الأوروبية.

هذا ليس خطاب انعزالي، بل خطاب شخص يرى نفسه حامياً لحضارة عرقية وثقافية تشمل أمريكا وأوروبا.

كما تتخلى الاستراتيجية عن طموح نشر الديمقراطية الليبرالية عالمياً، معتبرة أنه "هدف غير قابل للتحقيق". وتركز بدلاً من ذلك على "مصير الأوروبيين البيض"، وعلى تشكيل القيم والديمقراطية الأوروبية بما يتوافق مع رؤية ترامب.

وتحذر الوثيقة من أن عدة دول أوروبية قد تصبح "غير أوروبية" بفعل الهجرة، مضيفة أن "القارة ستكون غير قابلة للتعرف خلال عشرين عاماً" إذا استمرت الاتجاهات الحالية — وهي لغة يرى البعض أنها تحاكي نظرية الاستبدال العظيم، رغم نفي البيت الأبيض.

ثالثاً: أولوية الاقتصاد على الأمن والقيم

أكثر أجزاء الوثيقة تفصيلاً تتعلق بالاقتصاد:

– إعادة توطين الصناعات داخل أمريكا

– إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي

– استقطاب الحلفاء لمواجهة الصعود الاقتصادي للصين

أما القضايا الأمنية الإقليمية فتكاد تكون مهمّشة.

لا تُذكر طموحات روسيا في أوروبا إلا نادراً، بينما يُخصص لتايوان فقرة واحدة فقط.

وقد علّق الكرملين بأن الاستراتيجية الأمريكية "منسجمة إلى حد كبير" مع رؤية موسكو.

كما أن الوثيقة لا تُعير أي اهتمام للقيم الديمقراطية. فعندما تشرح لماذا ستدافع أمريكا عن تايوان، تُشير فقط إلى صناعة أشباه الموصلات وموقعها الاستراتيجي، دون ذكر ديمقراطيتها أو مبادئ القانون الدولي.

يترك هذا انطباعاً بأن ترامب يُفضّل المكاسب الاقتصادية على المبادئ والقيم، ويرى قادة مثل شي جينبينغ وبوتين كشركاء محتملين في "صفقات".

وتثير هذه المقاربة تساؤلاً مقلقاً لدى الحلفاء الأوروبيين والآسيويين:

ماذا لو كانت الصفقة المربحة هي التخلي عنهم؟

فعلى ضوء الوثيقة، ليس لديهم سبب قوي للاعتقاد بأن ترامب لن يفعل ذلك.

تعليقات الزوار